الجرجير فلسفة وسحر البداية
الجرجير فلسفة
للقاص/ على عيسى
بقلم / طارق الصاوى خلف
تصدير
الفلسفة هى أم العلوم تمنحنا قدرة على التفسير وطاقة للتفكير و مادة للتبرير يوصف بها الرأى العميق ونفر إليها عندما تحاصرنا الفكرة .
الجرجير فلسفة
استوقفني العنوان طويلا وسؤال يطرح هل اختاره الكاتب لكى يغازل بغرابته عقل القارئ؟! أو يحقق بغرابته فرصة للانتشار! أم أنه لسان حال المقال !
أتت الاجابة على طبق من فضة فى تعريف الكاتب لجمهوره فهو حاصل على ليسانس آداب قسم فلسفة. ومن ثم وجود لفظ الفلسفة مقترنا بعمله الأدبى الأول أمر متوقع أن يلحق بالجرجير لفظ فلسفة فلعله يعود لطبيعة النبات بلونه الأخضر لون الحياة وأنه ينمو فى الأرض بدون أى تكلفة أو مشقة و لا يستغنى الأنسان عنه فى طعامه كما أنه مفيد جدا كما يعتقد العامة من الناس فى تقوية المناعة.
هذا مجرد تفسير اولى لعنوان المجموعة " الجرجير فلسفة "
ونضيف أيضا أن قصة " الجرجير فلسفة " توجهنا نحو منحى آخر حيث جرت العادة فى عناوين المجموعات القصصية أن يختار الكاتب إسم قصة لتدل على المجموعة ومن الشواهد الأخرى ما تبين لى من قراءة المجموعة أكثر من مرة أن للكاتب منطقه فى السرد وله عالمه الخاص الذى أخذ منه شخصياته و حكاياته حيث يستقيها من قناة الذاكرة .
وورد فى مقدمة المجموعة لرئيس نادى الأدب المركزي بجنوب سيناء الشاعر خضر اسماعيل :-
"يدهشك اختياره لشخصيات قصصه فهى شخصيات عجيبة لها رؤية فلسفية في الحياة"
هذه الشخصيات التى اختارها الكاتب هى من نبت الأرض الطيبة التى تشبه الجرجير الاخضر فى كثرتها وتشابه ملامحها .
القص وزاوية الرؤية
تعودنا من نقادنا الكبار التسامح مع الكتاب الأول وأن نعامله كالمولود الأول للأسرة فهو حقلا لتجاربها، لنظرتها الخاصة للتربية فتسقيه الدلال أو تقسو عليه أو تتركه يختبر الحياة لتصنع منه شخصية.
هكذا الكاتب فى أول فرحته بما أبدع و نسج عقله و انجز بفكره، يريد أن يقول كل شئ، يطرح للقارئ فلسفته، رؤيته، نظرته، روايته للأحداث.
لقد استقى القاص أغلب قصصه من براءة الطفولة و تفتحه على الحياة الجامعية وليس مستغربا أن نجد المدرس بطلا للكثير من قصصه كما أن الحياة الجامعية وقصص الحب الرمادية مثل لنا رافدا هاما لالهامه إضافة للقطتين مميزتين من الحياة فى جنوب سيناء، منحت المجموعة سمة التنوع فى المحتوى والمضمون .
و أخذت قصص المجموعة قبسا من روح الكاتب حيث تفرض عليه طبيعة عمله فى مجال الكلمة و صناعة الخبر وتسجيل الحدث كمذيع وعادة يكون وراء كل خبر قصة فليس غريبا على الكاتب أن يدخل دنيا الأدب ويقتحم مجال القصة.
تتكون المجموعة بين أيدينا من ستة وتسعين صفحة من القطع المتوسط بها اثنين وعشرين قصة قصيرة طبعها الكاتب على نفقته الخاصة .
بين الواقعية و الواقع:
قرأت القصص أكثر من مرة توطئة للولوج لعالمه لأقف على تقنية الكتابة ، ادركت أن القاص على عيسى و هو يمارس الكتابة لم يقيد نفسه بتوجه معين أو يصيغ قالبا يصب فيه نتاجه الفكرى لكن بدون قصد منه يمكننا تصنيف عمله ضمن أدب الواقع وليس المقصود به أنه دون قصصه كما تنقل الكاميرا الصورة أو كالقصة الخبرية لكنه بذل جهدا ليحولها لفن راقى بمزج خياله فى حدث متنامى و الوصول بها لما يسميه النقاد (فى بعض قصصه) بالواقعية السحرية.
وفى السطور المقبلة نعرض شواهدا وتفاصيلا لما اجملته سابقا :-
فى قصة " كيلو سمك " نجح الكاتب بنقل صورة بصرية لاشتباك الواقفين فى طابور جمعية السمك وتتصاعد الدراما و تضرب فتاة سيدة كبيرة لأنها تزاحمها تقع الفوضى لتكون سببا فى اختلال العدالة حيث يتم التقاذف بالأسماك بينما ينجح الواقفون على الهامش فى حصد الثمار، وعند عودة الهدوء مجددا تستغل الفتاة جمالها فى القفز على دورها والحصول على نصيبها وتجرب غيرها حظها فتفوز بكيلو من السمك، تعود الفوضى احتجاجا على عدم الالتزام بالطابور ، يبلغ ضيق بالراوى مداه بعد أن أوقف البائع فى الجمعية التوزيع.
وقف موظف الجمعية وبائع السمك فوق البنك وقال: - والله خسارة فيكم تأكلوا سمك ، والله ما انا بايع النهارده سمك ، خسارة فيكم (ص 9)
لينسحب الراوى و يتوعد زوجته - المتمسكة بحقها فى الحصول على السمك- بالطلاق إن لم تتبعه .
تبدو فى السرد شخصية الإعلامي / القاص فى طرح قضايا العدالة و الجشع، قهر المرأة دون خطابية بل من خلال الموقف .
وفى "انتظار" قصة حب من طرف واحد و عندما يريد مصارحتها تؤجل الموعد ثم تتهرب من لقائه تصبح قلقه فى حضوره وتأتى النهاية مرتبكة فرغم أنه انصرف عنها تاركا إياها تبكى لكنه ظل منتظرا.
إلتقيا صدفة رقَت لحاله أجهشت بالبكاء أربت على كتفيها وانصرف ظل ينتظر وينتظر لكنها
لم تأت (ص 18)
قصة واقعية تتكرر كل لحظة حتى أن لحظة التنوير اكتمال الحدث أتت دون إثارة للدهشة.
في قصة "البطل" تثور حمية الفتى لرؤيته فتاة تتعرض للمعاكسة فيتصدى " للثور البشرى "
( ص 22) ويطرحه الثور أرضا ليجد نفسه في المستشفى حاول الكاتب أن يسخر بصوت هادئ من الواقعة :- "تبسم وهو يتمتم :- لقد فزت وهو انهزم وغاب عن الوعى " (ص 22)
ولعله يقصد أنه انتصر بموقفه و مبادرته للتصدى لمن خرج عن الجادة بينما اكتفى الجمهور فقط بحمله و نقله للمستشفى ، وفى لقطة ذكية من الكاتب قدم نهاية مفتوحه حين ابتسمت له .
قصة "الجرجير فلسفة "
بطلها شخص عانى من البطالة، ذهب للسوق لشراء حاجياته نظر لبائعة الجرجير تأملها وهى تصرخ فيه ولا تعرف ما يطلب منها لكنه وهو مالم يذكره الكاتب وجد لديها الحل في خلق فرصة عمل و كما هو الواقع فتجارة الجرجير لا تحتاج لرأسمال كبير و تدر ربحا معقولا حتى يصل للحل:-
" دون وعى منه ، ودون إرادة افترش الارض ، أخذ يتمتم :- الفلسفة : بائعة الجرجير: البطاطس :
أكل العيال ، والله ما انا عارف." ( ص 42 )
استطاع القاص هنا أن ينتقل من الواقع للواقعية السحرية حيث ترك القارئ معلقا بأهداب الخيال الخصب لحل عقدة القصة والكلمة الكاشفة عن الحيرة فى واقع صعب " والله ما انا عارف "
" رجل من زمن أخر"
حاول الكاتب من خلال تداعى الذكريات للمحتضر أن يعيدنا لقصة " البطل " وكيف استطاع بنحوله جسده وشحوب وجهه أن ينتصر على هذا الهمجى . ( ص 45)
لا أظن أن من تقنيات القصة القصيرة الإحالة الى قصة سابقة ولكن يمكننا النظر إليها من خلال السرد الطبيعى لحدث لمريض أصابه الداء الخبيث ويتذكر ما مر به من أحداث ومنها ما سبق التنويه عنه حتى نصل للحظة النهاية المحتومة :-
" يحاول أن يتحرك لكنه لا يستطيع ينظر إليهم مرة اخرى ، ولكنه فى هذه المرة كان مبتسما فرحا ، ثم يلفظ أنفاسه الاخيرة ، بينما يحوطه الصراخ والعويل " ( ص 45 )
وفى قصة "وحيدا عدت "
الشاب الذى جلس على المقهى أعجب بفتاة فى الشارع حاول التحدث معها أتى الحديث باردا التقى بها فى النيابة تزور والدها المتهم بالإتجار فى المخدرات لكنه رغم وظيفته تكلم معها واصل تعلقه بها حتى التقاها بعد أعوام لينهال عليها بمشاعره وتجيبه سوزان :- وسيل من الأسئلة لم يتوقف ، وفجأة سمع صوتا
من الخلف ينادى :- سوزان فين العيال ؟
إنتبه له فقالت له :- هذا زوجى .ص
إنها نفس تيمة قصته وفاء حيث انتظر المدرس عودة وفاء ليجد أن منال تشبهها.
فى قصة "صدمة" يعرض لنا وجها اخرا للعلاقة بين الاستاذ و الطالبة المتفوقة فى علاقة تلفت انظار الجميع إليها تعلم بنقد الزملاء لها فلا تكترث الفتاة
" سمعت كاميليا كل هذا الكلام ، وكل هذه الترَهات لكنها لم تعبأ بها لملمت أوراقها ، وانصرف
تاركة ورآها هؤلاء المتشدقون حاشرى أنوفهم فيما ليس لهم" . ( ص 54 )
وانصرف المفرض انصرفت حتى يستمر سياق الجملة
"هل كان حبا" قصة تفيض بنبض الحياة وتنغمس فى أرض الواقع وتؤكد على انشغال الكاتب بقضية العدالة التى تقوضها الواسطة وتقطع طريق الحب فيسقط البطل وتنجح الفتاة ويتداعى صرح العلاقة بينهما
" كان فى البداية يراها كل يوم ، ثم لم يعد يراها الا فى الاعياد . " ( ص 59 )
وددت لو أنهى كاتبنا القصة عند هذا الحد تاركا للقارئ أن يطرح سؤال العنوان كتقنية بسيطة للقصة المستديرة التى يعود القارئ من النهاية للبداية .
فى قصة "دليو" يصف مشهد الحزن بإحدى قرى صعيد مصر حيث يتشارك أهل القرية فى الافراح والاتراح فى كل أزقة القرية "صوت المعددات يتردد بالعديد فى أرجاء القرية :-
" فالمعددات كثيرات ، وكأن القرية كلها تنعى فقيدها" ( ص64 )
وفى القرية نجد البهلول الذى تنصت الناس له على سبيل التسلية واحيانا اعتقادا في كرامته
وهو يقدم مفاجأة مبهجة أن الميت الذى يبكون عليه مازال حيا لكن المسكوت عليه في السرد لماذا أقاموا سرادق العزاء ؟!
أظن أن الكاتب في تسطيره للقصة عرض زاوية واحدة وهو الشخص الذى اراد أن يكتب عنه دون بناء حبكة تزيد النص اتساقا و وضوحا .
ايضا فى السرد يمضى الخط متصاعدا وتكون الشخصية مرنة تتجاوب مع الحدث لكنه حكى فى قصة "ابو الغضب " و "الهادى " تناول شخصيتان نمطيتان فالغاضب لا يكسر حدته موقف:-
" أدار الطالب ظهره ، واخذ يتمتم :- "أبو الغضب هو ابو الغضب مبيتغيرشى" ( ص 75 )
والشخص الهادئ لحد البرود يذهب ليصالح زوجته الغاضبة منه لتحدث المفاجأة
أجابته :- طلقنى يا هادى ..
بهدوئه المعتاد :- إنت طالق . أدار لها ظهره ، وانصرف. ( ص 87 )
كمالة عدد يفشل استاذ الجامعة وينجح من قال عنه عبيط فى اتمام الصلح القبلى رغم محاولة احد اقطاب عائلة من طرفى المشكلة افشال الصلح يتناص السرد مع الواقع لكنه يختلف معه فى الشخص الذى اجبر الطرفين على الصلح
كرر :- الصلح حيتم ..
عندئذ إنحنى فؤاد على رأس إسماعيل يقبلها :- إللى تشوفه يا شيخ إسماعيل ( ص 83)
فالرجل الذى ركب مع أصحاب الوجاهة كمالة عدد هو من يصبح الحكم فى مفارقة جيدة صنعها الكاتب
"الدرس انتهى " حين يخطئ المعلم تقوم الدنيا ولا تقعد لكن استجابته للمشكلة التى تعرض لها بسبب رده على سؤال طالب فى القصة اتت محبطة للغاية
أغلق باب الفصل دونهم ، خرج إلى الشارع خلع سترته وضعها فوق ظهره طوحها فى
الهواء مرددا:- علم إيه اللى انت جاى بتقول عليه. ( ص 87 )
واخيرا منحنا الاديب لقطة متميزة عن الحياة الروحية لهولاء الذين تعيش ارواحهم هائمة في الملكوت بينما اجسادهم تمشى على الارض يصدق بوجدهم من شاء وينكر فضلهم من أبى لكن الجميع يسعد بهم هكذا أتت قصة " عيس " كمسك الختام ليظهر الرواى واضحا مشاركا في الحدث بعد أن سرد الكاتب أغلب قصصه بضمير الغائب لكنه الآن حضر فرحا بذبح الجدى واخبر عن الحالة الصحية لجدته
سألتها :- إنت تعبانه يا جدة ؟ فلم تجب .سمعت صوت همهمات لم أفهمها خشيت عليها ،
إندفعت إلى أمى صحت فيها :- جدتى مريضة : ( ص 90 )
و يعرض الكاتب طرفا من الكرامات التى انكرتها زوجته حتى عندما اصابها عقابه
تذكر يوم أن سخرت زوجته منه حين خلع الجاكت واعطاه لها لتعلقه واذا بالجاكت يمتلئ
بالكهرباء واذا بها ترتجف من أعلى رأسها. ( ص ٩١ )
هذه القصة التى تجمع بين الواقع من خلال طقوس الحضرة الصوفية و التضحية مع الحاجة لنيل البركة و الخيال في تصوير قوة الشخصية لمواجهة كل من يسخر بها
يبقى الإشارة أنه استخدم الحوار فى أغلب القصص بطريقة فنية و قد استوقفتني ايضا خاتمة قصصه التى انتهت بالموت و اختفت النهايات السعيدة لعله تتبع نهج نزار حين قال :-
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الابطال .
النهايات الصادمة
المفارقة فى السرد تقنية هامة فى يد الكاتب خاصة عندما يقدم نهاية منطقية مغايرة لتفكير القارئ محدثا أحيانا صدمة و كثيرا دهشة .
لكنى لاحظت أن السمة الغالبة للقصص هى الفقد بحادثة أو مرض
فمثلا قصة " حبيبة" ماتت بحادث سيارة
"انتظار" فشل البطل فى الحب
بنت الصياد غرقت فى البحر
"شهيد" مات البطل فى الغربة
"حب بلا نهاية" حضر البطل فى نفس المكان وأتت من لها صوتها مع افتقاده صورتها
وفاء فقد البطلة وحاول التعلق بالبديل
*رجل من زمن اخر مات" بالمرض الخبيث
"وحيدا عدت" افتقدها فلم وجدها كانت من نصيب غيره فبكى لضياعها
صدمة ماتت كامليا بحادث سيارة
" عايم فى ميه البطيح " سقط من الدراجة و عام فى ميه لا ندرى اهى ماء بطيخ أم دمه !
" الدرس انتهى " فقد الاستاذ اتزانه
فى عيس مات محمد
وأخيرا
طالت المسيرة مع المجموعة الأولى للقاص والاعلامى على عيسى و كما قلنا فى البداية أنه العمل الاول نتجاوز فيه عن ما وجد من أخطاء فى رسم بعض الكلمات وعن غياب الحبكة عن بعض من القصص يمكن تداركها فى الأعمال القادمة بإذن الله
طارق الصاوى خلف
تعليقات
إرسال تعليق