ثمن الخلود للقاص / مصطفى طراد و المجهول المُحرِّك للأحداث بقلم طارق الصاوى خلف

                                                                 ثمن الخلود

للقاص / مصطفى طراد

        تقنية الكتابة و المجهول المُحرِّك للأحداث

                                                                                       

من كتاب سرديات من أرض القيروز طارق الصاوى خلف


 

تصدير :

كتب إبن حجة المصري في مؤلفة خزانة الأدب عن استخدام الأدباء للتورية " لعمري أنهم بذلوا الطاقة في حسن الأدب الذي دخلوا إليه من باب التورية التي هى من أغلى فنون الأدب و أعلاها رتبة و سحرها ينفث في القلوب و يفتح أبواب عطفٍ و محبة " .

المؤلف و ثمن الخلود

الفنان مصطفى طراد حباه الله بمواهب متعددة جميعها تتركز حول ذائقةٍ صافية للكلمة ، فهو مُلَحِّن يعرف جيدا كيف ينتقي اللفظ و يعطيه جرسا موسيقيا يحوله لأغنية يدندن بها على أوتار عوده بصوته الرقيق .

و من هذا المنطلق نظم الشعر معتمدا على حاسته الفنية و ألَّف قصصا مضفرا النثر بلغةٍ شاعرة  من خلال توالي الجُمَل القصيرة و اختيار المَشاهد المُرَكَّبة كتيمة لقصص مجموعته الأولى " ثمن الخلود "

يضعنا القاص في مقدمته في مواجهة قاسية لسؤال مطروح " كيف أهملنا صاحب موهبة قصصية حقيقية يعيش بيننا حتى اقترب من عتبة الستين ربيعا ، تركناه وحيدا يجمع بين الأدب و الموسيقى ، يمزج الكلمة باللحن ، الفكرة بالطرب ، السرد بالغناء .

نسمع صوته زاعقا فينا من خلال سطور المقدمة .. يهزنا ..

" آثرت الصراخ .. لعل صرخاتي تكون حجة عند لقاء ربي " ( ص5)

ثمن الخلود و تقنية الكتابة :

التقنية هي طريقة الكتَّاب في السرد و السمات المميزة للأسلوب في ظل الشكل الأرسطي للقصة التي تتكون من بداية أحداث ، أبطال ، صراع ثم خاتمة .

و قد التزم الكاتب في أغلب قصص المجموعة بهذا الترتيب ، كما نجد أنه التزم أيضا كجزء من تقنية الكتابة بالتورية .

و التورية هي أن تكتب شيئا تقصد به مفهوما آخر و هو ما يقول عنه النقاد المحدثون " المعادل الموضوعي للفكرة " و هي تيمة نراها في أغلب قصص المجموعة المقروء غير الذي يفهمه المتلقي مع آخر سطر في القصة و هذه تقنية مميزة للأديب مصطفى طراد .

نراها واضحة مع أول قصة في المجموعة " إياكم و الإزعاج "

نجد أنفسنا أمام مشهد مألوف في برنامج الكاميرا الخفية ، شخص مجهول يقتحم المنزل ، يلتهم طعام الأسرة و يأتى  على المخزون التمويني لها  يندهش صاحب البيت يقول لنفسه

 " العجيب أنه يتصرف في بيتي بمنتهى الثقة ( ص11 )

و بدلا من أن تواجه الأسرة الشخص الغريب ، تدخل في صراع بين أب يغار ، و أمٍ متهمة بأنها شجعته على الطعام ، و أبناء يبررون ما يجري ، ليستمر الكابوس جاثما على صدر العائلة و لا ينتهي إلاَّ و قد أصبح الغرباء أصحاب بيتٍ يتحكمون فيه و يُخَيِّرهم الفاعل المجهول بين البقاء بلا إزعاج أو الرحيل .

مع نهاية القصة يصبح المجهول معلوما و السرد و الحدَث هو معادل موضوعي للقضية الفلسطينية .

على نفس المنوال ينسج الكاتب أحداث قصته الثانية حين يتحول التمثال إلى وحش فرانكشتين الذي يريد تدمير صاحبه ، لكنه مع النهاية يعيد الأمور لنصابها بين الفنان و التمثال في عبارة كاشفة " تجمَّع المارة مع إشراقة الشمس .. أفاق " (ص22) دون أن يجيب على سؤال مطروح بين سطور القصة ، أيُّهما يُخَلِّدُ صاحبه .. العمل الفني أم الفنان الذي أنتجه ؟! .

يصرخ الأديب في وجوهنا معريا حقيقتنا ، كاشفا الغطاء عن واقعنا تاركا ساحة الحدث ينمو عبر حوار قصير بين أبطال قصة " مريم " التي تُنتَهك و صاحب العمارة يطالب الجمهور بالصبر حتى تموت مريم تحت سيقانهم " يلفونها بقطع قماش (ص27)

ثم يسخر من الجميع في  نهاية القصة " ما أشهى نساؤكم " و قد عاد الجمهور للعب النرد " شيش بيش ... خد نفس "

يقدم الكاتب عبر تقنية السرد في قصة " و سأنتظر الرجل الأسمر " الذي أدى اختفاءه إلى انهيار العمارة التي صمدت طويلا في وجه العواصف ، هذا الأسمر المنتظر هو أنا و أنت و الكاتب حين نعود لقيمِنا المصرية الأصيلة ستنتصب عمارة الوطن من جديد في وجه الرياح .

تتسع تقنية الكتابة في قصة " كفر الغلابة " لتستعير مشهد مسرحي و مجاميع و حوار .

يستخدم الإسقاط الفكري ليعطي مذاقا ملتهبا مع " قرن الشطة " التي يُحكم على المجاميع بتناولها قبل عبور الجسر و لا تعترض ، بل تتطوع لشراء قرن شطة بعد نفاذ الكمية ، يمارس الضحية مع الجاني الذي يوشك على الملل لعبة عض الأصابع الشهيرة .

يتجه الكاتب للمباشرة في توصيل صرخته في قصة " آه من بهية " في عنوان كاشف و عاتب على بهية التي " لا تترك فرصة حتى تشكو كثرة أبنائها (ص44)

يكمل عتابه في قصة " منكِ المفر و إليكِ الهروب " حيث يواصل خطابه لبهية " أراقب معشوقتي من بعيد .. من دم أحبائها تطعم الغرباء (ص46)

الغرباء هم الذين اختار الكاتب أن لا يصفهم أو يعطينا فكرة عنهم ، لكنهم الفاعلين الذين أرادوا طمس ملامح الفارس الجائع ، من يرفض أكل آخر لقمة من صنع المحبوبة (ص47)

يرسم الأديب لوحة للبؤس في الحال و الفكر في " تنابلة الرُّبان "

و " نطق الحجر " كما يقدم صورة لمن سُرقت سنين عمره و يذهب ليتصدر حفلة يكشف خلالها أنهم يودعونه بها قبيل بلوغ " الساعة الآن ستين "

وقفة مع قصتين :

" ثمن الخلود " القصة التي منحها اسم المجموعة ، يستهلها ببداية ملهمة " أمام المرآة وقفت تعُدُّ سنين عمرها " تتمرد على حالة قهرٍ يرزح تحت سياطها تبحث عن الخلاص ، عن المجد ، عن الخلود ، الحياة الأبدية حتى تجد ضالتها بعد منولوج داخلي قصير تذهب لوكر الشيطان " تغرس زيتونة و قنبلة " (ص31)

في هذه القصة نظرا لموضوعها ، يتخلَّى الكاتب عن التقنية ، يلجأ للمباشرة ، للحوار التحريضي ليناسب الموضوع .

قصة " ذَبَحتُهُ ليعود " يصبح الكاتب هو الراوي مما يكسبه القدرة على التحكم في وتيرة الأحداث و تتالي التصعيد الدرامي لتنطبق على القصة مقولة " العذاب امرأة " .

تستدعِ مجهول من نسج خيالها ، تنصبه ( خيال مآته ) يُفزِعُ الرجل الجالس أمامها يُدَخِّن بشراهةٍ ، ينتهي العتاب بوفاق و تُختَم القصة " توقَّفَت عقارب الزمن عندما أسكرنا خمر الرِّضاب (ص69)

التقنية و الظواهر الفنية في المجموعة :

نستطيع أن نوجز الحيل الفنية و اللغوية و التي تمثل العامل المشترك بين أغلب القصص في الآتي :

1 – وجود مجهول فاعل في تحريك الأحداث في 10 قصص من المجموعة

2 – استخدام أسلوب الإسقاط في عدد من قصصه منها " كفر الغلابة "

3 – استخدام التورية كمعادل موضوعي في القصص التي يتحدث فيها عن الهم الوطني و القومي

4 – اللجوء لبناء السطر الشعري كوسيلة للسرد لعددٍ من قصصه التي أطلق عليها ( قصصا قصيرة )

5 – التركيز على تداعي المعاني في القصص التي يكون الكاتب فيها هو الراوي

6 – حرص الكاتب على توجيه القارئ عبر كتابة تاريخ 19/3/2003 في قصته " عند الرقصة الأخيرة " و هو يوم بداية العنوان على العراق و الذي انتهى بسقوط بغداد في 9/4/2003

7 – بعض القصص مرتبطة عضويا أو هي تناول لفكرة بتنويع سردي مختلف مثل قصص ( إياكم و الإزعاج ، مريم ، ثمن الخلود ) و ( سأنتظر الرجل الأسمر ، كفر الغلابة،  آه من بهية ، منكِ المفر و إليكِ الهروب، هي بلا رتوش )

8 – استخدام الفعل " أفاق " كتكنيك قصصي و فاعل في اكتمال الحدث سواء كان الفعل أفاق أو أحد تصريفاته مثل قصص ( نطق الحجر ، عندما نصنع التماثيل ، بانوراما القدر ، أعظم قصة حب ، ثمن الخلود ).

                                                                   طارق الصاوى خلف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دلالة العنوان فى رواية هاء، واسفار عشتار اد. عز الدين جلاوجى بقلم طارق الصاوى خلف

رسالة لرائد الخير " سامح مدحت" فى ذكراه الرابعة طارق الصاوى خلف

مطلع العام الثامن والخمسون مع وقفات فى حياتى طارق الصاوى خلف ‏