نظرات فى ثقب فى الذاكرة للاديب وليد الهوارى بقلم طارق الصاوى خلف

 لقطات من المجموعة القصصية 

ثقب فى الذاكرة  

القاص / وليد الهوارى

بقلم  / طارق الصاوى خلف 

تصدير 

 السرد شكل من أشكال الفن التعبيري يحول  القصة من الشفاهية  الواقعية إلى صياغة لغوية مستخدما نسيج من  الكلمات والأفعال بطريقة تكشف عن عناصر و صور النص النثرى، لإثارة  عقل القارئ لاستقبال العمل الأدبى . 

لقطات من مجموعة  "ثقب فى الذاكرة " 

الذاكرة مخزن الصور والأحداث التى تأتى من وقائع الحياة ومن تجارب الذات أو الآخرين من الأفكار الشفاهية إضافة للخيالات وعندما يُفتح ثقب فى هذه الخزانة و يُمتشق القلم لتسجيلها فى صورة قصص فأنها تحمل العديد من الخصائص  تبين سمات أسلوب كاتبها، طريقة تناوله السردى، عالمه القصصى، انحيازاته الفكرية، بناء الشخصيات وإدارة التفاعل الدرامى للوصول للحظة التنوير واكتمال الحدث  سنحاول عبر النقاط التالية إلقاء الضوء حول هذه النقاط:

الشخصية في النص السردي  تشكل أحد من مكوناته  شأنها في ذلك  كفضاءات الزمان والمكان والإيقاع

 والحدث و قدم القاص  وليد الهوارى فى هذه  المجموعة المكونة من ست عشرة قصة قصيرة قصصا تتسق مع العنوان فجميعها فيض من الذاكرة عن  شخصيات سبق لكثير من الأعمال الأدبية تناولها  مثل" فتاة القطار -  بائعة الهوى – القاتل المأجور -  الأرملة – اللص –  العمدة - الدرويش  " و لا أظن أن في هذا ما يقلل من قيمة العمل لأن المعالجة التى تقدم فى إطارها الشخصيات هى التى تُبرز نجاح الكاتب فى تناولها ففى قصة "القاتل" المأجور  نستعيد من الماضى شخصية كان لها وجود ثقيل الوطأة فى بالمجتمعات الريفية وعلى اطراف الحضر و غالبا ما يكون القائم بها إنسان منبوذ يعيش على الهامش لكن القاص وليد الهوارى صور لنا  نموذجا مختلفا  له منطق فى ممارسة العمل الذميم يجعله يفتخر به فى حالة نادرة  من التصالح مع النفس و الاعتزاز بدوره المُشين ويقول الروى " احمل البندقية بدلا من الفأس لأحصد بها ما زرعه الناس بينهم من أحقاد وأطماع  " ص30

إنه لا يبرر فقط بل يعطى لعمله بعدا أخلاقيا وهو نجاح للكاتب فى العالم الموازى الذى يجعلنا نعيش صيرورة الحياة بمنطق معكوس.

 كرر السيناريو ذاته  فى قصة "مشاعر مطفأة " سار الحكى فيها باستخدام ضمير المتكلم ليسمح للراوي العليم أن يستبطن مكنونات الشخصية  لإنسانة قدمت أغلى ما تملك باسم الحب و مثل العديد من القصص المشابهة  يفر الحبيب تاركا ضحيته تعانى انكسارها لكنها مع اكتسابها المال و إغداقها على من يحيطون بها تصرخ بسؤالها لمن " يلعنون البغية فى العلن ويقبلون يدها المنعمة فى السر فأين الشرف ؟" ص 15يظهر السؤال لأربع مرات فى القصة لتؤكد البطلة أن الجميع مدان وتكتفى بهذا  لمنع ضميرها من تنغيص حياتها بالتأنيب و تلقى بذنبها على غيرها ": لا تحدثنى عن الشرف فالعالم لم يكن شريفا معى ." ص19

السرد فن تعبير الألفاظ عن الوقائع لبيان الصورة المتخيلة وقد اختار  الكاتب  أسماء الشخصيات لتكون قريبة من وعى القارئ وصرح فى مقدمة المجموعة عن مقصده بقلمه " تعمدت أن أمنح أبطال هذه القصص أسماء أعلام، حتى أمنحها حياة على الورق كما حية فى ذاكرتى  وترفض أحيانا أن تنام" ص 3 لهذا لجأ الكاتب  فى جل  قصصه لمنح  شخوصها أسماء  أعلام لها  نظير من لحم ودم  مروا علينا فى الحياة وهنا يواجهنا  سؤال هل المعلوم بالضرورة فى ذهن الكاتب يمكن أن ينتقل إلى خيال القارئ بنفس الصورة؟!

وماذا تعنى للقارئ أسماء مثل ( مؤمن صابر المحامى ، عباس ، كمال القطان ، الشيخ مأمون ، الحاج أحمد زيان ،وصفى المعداوى - ألخ ) دون أن يقدم أى وصف حسى أو تكوين نفسى للشخصية سوى فى حالة و أظنها فريدة  فى قصته "موال الصبر"  خرج الكاتب عن سنته التى سار عليها فى قصصه السابقة وقدم لنا تفاصيل دون أن  يذكر اسم البطل  فى القصة لقد قايضنا الكاتب فى هذه القصة بتجاهله  الاسم مقابل إسهابه فى رسم ملامحه، اخبرنا  أنه لم يرث من أمه طولها بل انتقلت إليه من أبيه جينات قصر القامة، هذا من حيث الشكل التأثير النفسى على المظهر نراه عابسا لا يبتسم، متوحدا مع  أمنية امتلاك محل مكوجى يعمل به خلفا لأبيه  بعد فشله فى مهنة الحلاقة، يبخل على أهله و  يكنز كل قرش يكسبه من أتقان عمله و الصبر على المهانة حتى تحقق حلمه و عرض  فيكتور معلمه العجوز الدكان للبيع فاشتراه بلا تردد  لحظتها ابتسم واشترى لأمه الدواء بل حتى نظرة الأخرين له تغيرت " المرآة التى يره فيها فيكتور تنقلب رأسا على عقب و قد بدا أطول واضخم من المعتاد" ص 83.

فى السرد تطرح الأسئلة لجذب الانتباه و لا تكاد تخلو قصة من مجموعة " ثقب فى الذاكرة" من أسئلة على لسان الراوى تطبيقا لاستراتيجية للتواصل الفعال بين الكاتب و القارئ من خلال اشغال ذهنه بالبحث عن إجابة لا يمنحها لها مباشرة بل يدعه يستنتجها و أحيانا يأتى السؤال فى لحظة التنوير او اكتمال الحدث كما فى قصة "خطوات فى طريق خطأ"  يختمها باستفهام زاعق بحجم الجرح فى قلب البطل " لما قتلت أمى ؟..... يا أبى " ص 58 

إما فى قصة  "الزيارة " التى تشبه  الدراما التلفزيونية بتركيزها على  النزاع العائلى الممتد عبر الأجيال على منصب العمدة ،التقط الكاتب الخيط و عالج القضية من زاوية بعيدة عن نظيرتها المتداولة ليبدأ من الاستعداد لزيارة محمد عطيه عنان  الذى صار وزيرا لقريته لافتتاح مدرسة بها  فرح الجميع حتى أن  " الابتسامة تلون كل شئ إلا وجه العمدة" ص 60 قلق العمدة جعله يسرف فى السؤال عن مصيره نتيجة الخلاف القديم  مع الزائر . ماذا سيفعل الوزير بالقرية ؟ وما الذى جعله يختار أن يفتتح مدرسة بهذه القرية بالذات ؟ص 61  ماذا سيكون مصيرك ياتمام؟ هل ستفقد كل شئ فى غمضة عين ؟ ص62  يجيب العمدة على نفسه  بجملة مثيرة للانتباه تصف التغير الذى جرى  لأهل القرية " خرجت طيور الألسنة من أقفاص الصدور "  ص 62 إنها نذر التغيير جعلته  يهجر فراش  زوجته الجديدة وداد، بات ليلة على الشوك فى انتظار القادم للقرية خرج الجميع بمن فيهم زوجته وابنه لاستقباله لكن عذر الموت حبس العمدة على فراشه .

فى قصة " شارعنا" يعود الطفل شابا لبيته تعترض صيرورة السرد الأسئلة هل للذكريات رائحة ؟ ص47 ينظر لصورتين معلقتان على الجدار يسألهما "،" ترى هل تشتاقان إلى كما أستقاق إليكما؟" ص48 "أين ذهبت تلك الصور المعششة بأركان ذاكرتى كالطلاسم التى  لا تحل؟  يبحث عن الحب القديم فتجيبنا المزيد من علامات الاستفهام " هل تسكن هنا؟ هل غادرت واغتربت مثلى ؟ هذه الطفلة التى دلفت إلى المنزل الآن هى  طفلتها؟ "ص 50  ينظر لشارعه القديم فيرى الراوى فيطرح سؤالا بلهجة استنكار  " هل هو التطور؟" ص51 مبررا النهاية حين يدلف لدكان شحاته الحلاق ليستمتع بحكاياته يستعين به فى الحصول على إجابات عن اسئلته . 

يحول  السرد الأحداث لواقع يمكن معايشته وتخيله،  من خلال تأثر الكاتب بالحياة فى مدينة شرم الشيخ التى يقيم بها  وألهمته  قصة "مارلى"  وقلما نجد كاتبا وافدا لا يظهر أثر حياته الجديدة فى ابداعه خاصة إذا كان فى مدينة مفعمة بالحياة حيث نجد العالم بكل ألوانه فى فنادقها ولياليها الساهرة مما يولد تحولات تطرأ على الانسان للتوائم مع المتغيرات فى مدينة عالمية تمزج  الشرق بالغرب، تبدأ القصة بسير بطلها مع كلب أهدته له صديقته الإيطالية مع سلسلة ذهبية، أهل نفسه للسفر بعد زواجه بها رغم أنها تكبره فى السن على أمل أن تصحبه معها  إلى بلدها، تعده و تراوغه ثم تقطع عنق طموحه برسالة تبلغه فيها أنها لن تعود إليه ثانية، انهت حلما  ترعرع  فى إقامتهما المتقطعة فى شرم الشيخ فى شقة التى اشترتها لأجله.  أتى رد فعله مباشرا  طلق حياة ود أن يعيشها " فتح الباب ، ثم ركل كلبا اهدته له " ملقيا به إلى الشارع بعد أن أخذ السلسلة" ص 70    

 اعتماد السرد على الظرف الزماني، يظهر إدراك الراوي للوقائع فإما  أن يسير باتجاه واحد أو يسمح لبعض التداخل والتقاطع، وظهر هذا جليا فى قصة " ثقب فى الذاكرة" التى تمثل عتبة المجموعة التى منحتها  اسمها  لتكون أول ما يسعى له القارئ والناقد للتعرف على الكاتب  وقد يظلم البعض فى تقييمه عندما  يعمم الحكم من خلال قصة على المجموعة لكننى أرى أن قصة "ثقب فى القلب "  اعطت للمجوعة مذاقا وإن احتفظت بنفس السمات التى سبق ذكرها وربما زادت عليها الغموض المتعمد من خلال السرد المتقطع للأحداث التى تبدأ مع إلحاح البطل على الاتصال برقم مرفوع من الخدمة لتدخل عليه من يظنها أمه حاملة كوب الينسون ليشربه ويكمل وضع خطوط على لوحة لعلها ترمز لحياته يحب سناء زميلته فى كلية الهندسة "لكن القصة لم تكتمل" ص 23 يحدث التطور مع طلبه صديقه عبد الحميد الذى يحب أخته سعاد ولا يمانع  فى زواجهما لكن الرسالة المسجلة تأتيه أيضا أنه ثقب الذاكرة التى اسقطت سنوات طويلة من عمره وهى الحياة الطبيعية التى تزوج فيها وانجب ثم ماتت أمه وتولت العناية به اخته سعاد التى تقدم له وهى فى الخمسين كوب الينسون المهدئ لكنها       تتصل بحازم " لابد أن ندخل أباك إلى مصحة نفسية يا حازم "ص24 تبدأ القصة بإمساك البطل للسماعة القديمة فى زمن الهاتف المحمول . 

نجد فى القصة عالم مزدحم بالشخصيات و عدم وضوح فى محاكاة لحالة فقدان جزئى للذاكرة والحنين الشديد للماضى هى قصة شبيهة بقصص التحليل النفسى التى تقدم الشواهد وتغفل المشاهد ، يمثل اسلوب  اللغة فى السرد  غرضًا جماليًا لا يمكن الاستغناء وقد استخدم الكاتب  اللغة بشكل رائع وسلسل وبسيط وموحى فى نفس الوقت  .

السرد فى القصة القصيرة واجهة  فنية من خلاله يعبر الكاتب  عن القضايا  المجتمعية التى تؤرقه وتحفزه  ليقدم نماذج من الحياة عن الباحثين عن الثروة السهلة بالتنقيب عن الآثار فى  قصة "حفرة فى القلب" عن الأخ الذى استطاع إقناع إخوته بسهولة بمغادرة منزل ورثوه عن أبيهم و لا يأتمن  زوجته و الأبناء على سره فيقصيهم ، يتبع بشهوة الوصول للكنز إرشادات درويش مغربى فيحفر بنفسه تحت حجرات  البيت ليصل بإرادته للحظة الفاجعة و يسقط عليه الموت فى برودة الجب الذى حفرة فلا يدرك كنزا أو يحافظ على ميراثا من الانهيار مع أحلامه .

فى قصة "النافذة " نرى  الأرملة التى فقدت الأب السند والزوج الحماية وهى  ابنة الست وعشرين عاما وحيدة مع ابنتها الشقية، تخنقها عباءتها السوداء التى تلبسها حدادا على بعلها، تحولت  مع الحرمان المادى نظرتها لصورة الراحل من حنوه عليه إلى أن "تطلعت إلى الصورة التى تهمهم فى غضب ثم قالت لقد خذلتنى " ص 34 تذكرت فى الليل جارها الذى حال فقره دون زواجها به، ودعت الحزن بخلع العباءة السوداء مع اتخاذ قرارا  لا رجعة فيه  بفتح النافذة مع إطلالة الشمس.

السرد التسلسلي أحد أساليب الكتابة القصصية  و أيسرها  لأنه يقوم على الترتيب المنتظم للأحداث أو نظام خطيّ في التصعيد يبدأ بنقطة بداية ساكنة ثم تتوالى التفاعلات من خلال الموقف للحبكة أو النهاية مثل قصة "القطار " المفتتح  هى " كانت منهمكة فى قراءة رواية لنجيب محفوظ "  هو " عيناه تغادران العالم جميعا وتسكنان عندها فى المقعد الذى بجواره" يأتى الحدث بعد  سكون المشهد مع التعبير الجميل للكاتب عنه الى أن يسألها "إلى أين ؟ فتجيبه "المحطة القادمة " قمة الموجة  " ناولها الحقيبة و الكارت الخاص به " الخاتمة "أشار إليها ملوحا أشارت إليه ثم استدارت  ... ومزقت الكارت " ص 7

نفس النسق الخطى نراه فى قصة " فى حضرة لص" البداية بجملة نفى " لم أعد أطيق الطريقة لتى يمشى بها كارم البغدادى " يأتى الحدث حين يسير خلفه يتحدث إلى نفسه دون أن يدنو منه أو يخبره عن كراهيته له دفاعاعن ابيه الذى قتل فى المعركة مع المطاريد بينما عاش أبيه وتكونت حوله سيرة كأنه أبوزيد الهلالى ص 38  الصراع الساكن مع الذات يولد جملتين تترددان  فى نفسه " كان أبى هناك " لثلاث مرات و "كان أبوك لصا" اعادها  ايضا ثلاثا  التصعيد الدرامى هتافه المكتوم " كان ابى شريفا وكان أبوك لصا " ص 40  قمة موجة الدراما " تعمدت أن يصطدم كتفى بكتفه نظر لى فى لا مبالاة ثم مضى فى طريقه "ص41 النهاية دخل خلفه للمقبرة اكتشف وجوده "رفع يدى لأقرأ الفاتحة على روح سليمان البغدادى "ص 42 

نهاية تعيدنا للحظة البداية حيت و يفيض العنوان بالدلالات التى تظهر فى النهاية بوقوفه الخاشع "فى حضرة لص اللص .

اخيرا


فى ختام اللقطات التى استطعنا الحصول عليها من المطالعة للمجموعة القصصية الاولى للقاص وليد الهورى والتى  طبعها الكاتب على نفقته الخاصة فى عام 2018  نتمنى له المزيد من التألق وفى انتظار الجديد والمزيد فالكاتب يمتلك لغة متميزة سليمة و قدرة على صياغة جمل موحية .


طارق الصاوى خلف 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة فى ديوان لا تنشد المحتاج للشيخ حمدان الترابين لطارق الصاوى خلف

مطب سيناوى للشاعر رأفت يوسف بقلم طارق الصاوى خلف

مطلع العام الثامن والخمسون مع وقفات فى حياتى طارق الصاوى خلف ‏