الهروب من الذاكرة رواية عابرة للزمن للأديب وليد الهوارى طارق الصاوى خلف
الهروب من الذاكرة
رواية عابرة للزمن للأديب وليد الهوارى
طارق الصاوى خلف
تصدير
تصميم الرواية برسم شخصياتها على الورق وتحديد العلاقات بينهم، وإعداد مخطط زمنى ومكانى لكل حدث، يوفر كثيرا من الوقت في كتابتها، و يمنح الكاتب فرصة التجويد فيها ايقاعها عند مراجعتها قبل نشرها.
الهروب من المكان والزمان
رواية "الهروب من الذاكرة" هى العمل الروائى الأول للكاتب وليد الهوارى وهو باحث فى التاريخ وسبق له أن أصدر مجموعة قصصية بعنوان " ثقب فى الذاكرة "
الرواية مكونة من عشرة فصول تُسرد أحداثها على لسان راوى بضمير الأنا ليكون الصوت السارى فى للبطل المشارك فى صنع الأحداث وتوجيه دفتها مع وصفه لنفسه "إننى لسان الذين كانوا و أنا الذى اختارنى القدر لأحكى عنهم" ص 5
تتخذ الرواية منحى تصاعديا من لحظة وعى البطل بذاته و تخزين ما مر به من نكبات فى ذاكرته منذ ماتت أمه وهى تلده و بدأ طفولته ممسكا بكف أبيه يسعيان لمنزل جده إلى لحظة مرعبة فقد فيها الأب ليشتعل صراعه – صبيا بلا حول - مع اخوته على الميراث ثم شابا جلدا يتصدر المشهد و يأخذ بثأر أخيه لكن ذلك لم يشفع له عند إخوته فيضطر للفرار من القرية ليتخلص من متاعبه، ذكرياته " إننى هارب من ماض كان قاسيا ومظلما إننى اخطو خطواتى الأولى نحو الشمس ". ص 91
القصة تتكرر من نزاع ابنى أدم إلى كيد إخوة يوسف ولكل منهما تجلياتهما فى الأعمال الادبية.
المكان الذى تفاعلت على أرضه وقائع الرواية قرية تجاور النيل.
الزمان لم يشر إليه الكاتب أو يحدده صراحة و علينا أن نلتقط له شواهد ومشاهد من الرواية لنتمكن من استنتاجه من خلال وسيلة المواصلات التى يستخدمها أبطال القصة وهى الخيول والحمير و المراكب فى النيل و أيضا شكل البيوت التى اجاد الكاتب وصفها " كان بيتنا منزلا كبيرا بنى بالطوب اللبن و الخشب واضح المعالم من بعيد بضخامته و ايضا بشجرة التين الضخمة التى تقبع كأنها حارس عملاق " ص 10
وشت الأدوات المستخدمة فى المعركة على عصرها وقد دارات راحها بين عائلة الراوى وبين عائلة الخشاب من نجع الضوى "هذا حامد يمسك بتلابيب صديق الخشاب... وهذا صالح يضرب صديق بالعصا" ص 46
و ظهرت الغدارة ( نسخة أولية من البندقية كان يستخدمها المماليك ) واستخدمها البطل مع البلطة فى أخذ الثأر من مختار الخشاب الذى قتل عبد الغنى شقيق الراوى " وصلنا إلى البيت فأخذنا غداراتنا و أخذت معى البلطة أيضا ص 52
كما أن استخدام الكاتب لمدينة مصر بديلا عن القاهرة كلغة متداوله فى الزمن الذى افترضته للرواية " وحتى مدينة مصر العظيمة التى يسكنها الغز" ص 70
يطرح على سؤالا أهم المماليك؟ ! أم اختصار للغزاة فتكون الرواية مثلا فى زمن وجود الحملة الفرنسية على مصر. أم هى رواية أراد كاتبها أن تكون عابرة للزمان؟!.
رسم الشخصيات
أجاد الكاتب رسم شخصيات روايته و تحويلها إلى صور ذهنية فى عقل القارئ و وصفها بالكلمات ليخيل إليك كأنك تراها فالأب " الحاج أحمد الرفاعى ذلك الرجل الفارع الطول الأسمر البشرة ذا الأنف الشماء المستقيمة و الوجه المربع و الشارب الكث الذى توارى سواده فى بياضه " ص 5
الشيخ غانم شيخ الكتاب الذى حفظ على يديه البطل القرآن "يبدو لى مخيفا جدا بلحيته التى قاربت منتصف صدره و التى لم تطالها يد التهذيب بأى لمسة واسنانه المثرمة " ص 15
ارتبط رسم الشخصية بالدور الذى تقوم به فشقيقه حامد الذى ورث أبيه فى مقعده ككبير للعائلة والقرية و الذى اعترض عليه أعمامه دون أن يكون اعتراضهما أثرا فى سير الأحداث
" غدا حامد أخى كبير العائلة لكن على مضض من عمى سالم وعمى كامل لأنه لم يكن أبدا فى حكمة أبى ولا هيبته و لا حتى مكره " ص 22
هذه الصفات المعنوية لشقيقه تحولت لمادية فى إظهار الضعف الجسدى له
" كان حامد متوسط الطول له بطن بارزة وشارب رفيع ووجه مستطيل يغطيه شعر أسود ناعم مع سمرة واضحة وذات الانف المستقيم لأبى التى ورثها عن أبى " ص 22
أما العم إبراهيم الدرويش الذى وعده بالزواج من ابنته لكنه وافق على خطبتها لصالح ابن شقيقه حامد فقد كان ضعيف البنية " لم يكن عمى ابراهيم يشبه أبى فى أى شئ كان أبيض البشرة له شارب أصفر و جسد نحيل وهو أقرب إلى القصر مع عينين واسعتين وأنف مفلطحة وأسنان بيضاء سليمة " ص 64
الجد للأم عبد الحافظ الجارحى الرجل الذى لم ينجب من زيجاته إلا ابنة وحيدة هى أم بكر بطل الرواية صفته الجسدية هى حالته فى الحياة فقد ورث جميع أقاربه الذين لم ينجبوا لذا صار " نخلة أخيرة فى أرض قاحلة " ص 6
مستويات الصراع فى الرواية
يمثل الصراع فى السرد التحدى أمام البطل يعوقه عن نيل رغباته و تحقيق أهدافه و يحول المشهد الساكن إلى حالة من التوتر و الحركة الدائبة و يجلب الفعل تصاعدا دراميا للوصول إلى مرحلة العقدة أو لحظة الاختيار المصيرى أو ما أطلق عليها حبكة العقدة " حلان لا ثالث لهما إما أن تقتل صديق الخشاب و إما ان تتنازل لنا عن أرض السيل .... اختر ما ترى " ص 61
أنه الصراع على الميراث المادى والمعنوى بين الأشقاء و أعتقد أن نجاح الكاتب فى رسم سيناريو مقنع لتبرير سلوك البطل فى اختيار سبيل ثالث بين البديلين و هو ما تابعناه فى الرواية .
تتعدد مستويات الصراع فى الرواية و من المهم إلقاء الضوء على الصراعات الثانوية التى كانت وقودا لاشتعال الأحداث مع ملاحظة خفوت صوت الصراع مع الذات أو المنهج الفرويدى فى تحليل السلوك مع وجوده بدرجة ما فى الرواية من خلال صراعات لها مرجعها النفسى بين زوجتى الأب راضية ابنة الصياد التى تغضب لأن زوجها يعامل فاطمة
" على أنها سيدة المنزل كما أنه سيد القرية" ص 11 وكرد فعل لشعورها بالإهانة تطلق على ضرتها أنها " أصل بلا فروع وشجرة بلا أغصان" ص 12
ذلك لأنها من عائلة أمه التى يموت رجالها دون ذرية ترثهم رغم أنها أنجبت حامد الذى سيرث والده ككبير للعائلة و زينب التى تحنو على أخوها غير الشقيق و تصارع لأجله شقيقها دفاعا عنه بل تكسر العادة تأتى صبيحة زفافها لبيت أبيها لعناق شقيقها و كذلك
"احتضننى زوجها أيضا ضاحكا وهو يقول : لم يهدأ لها بال حتى أتت لتراك إننى لم أر أخت تحب أخيها كما تحبك هى "ص 21
إنه إحساس الأمومة و الانسانية فى رعايتها لطفل يتيم حاول جده لأمه فى وحدته أن يستعطف والده ليبقيه معه فى بيته لكن احمد الرفاعىى حسم الأمر "بكر لا بد أن يتربى مع إخوته هذا أمر لا رجعة فيه " ص 10
صراع الذات كاشف عن توجسات طفل يريد أن يكبر، ينفخ فى صدره، يصرخ من أعماق معاناته
" كنت أعدو بحياتى وأجرجر خلفى الأيام حتى أفارق الطفولة دون جدوى " ص 21
يدركه ما يخشاه و يزلزله فقد الأب حين تركوه وحيدا بحسرته " صرت أركض فى كل مكان فى المنزل كنت أريد أن أخبر أحدا ما اعرفه بأن أكبر صخرات هذا الجبل انهارت وتفتت و لم يبق منها سوى النظر المعلقة بى والرسالة التى لم تصلنى" ص 22
يتصدر الابن الأكبر المشهد لكن الكاتب لم يشرح لنا ما دار بين أشقاء الأب الراحل من اعتراض على تولى حامد شئون العائلة مر الأمر مرور الكرام ربما ليفسح المجال للصراع بين بكر وحامد ليتضح لنا سبب هروبه من ذكرياته أو لأن هناك صوتا وحيدا فى الرواية لا يتيح للراوى المشارك أن يعطينا جوانب من الصورة غير التى يراها الراوى وسجلها فى مخزن وعيه ونقلها للقارئ.
" كان حامد فى البداية يتجاهلنى كأننى لست موجودا " ص 22
يتسق هذا الأمر مع وضعه كطفل لكن الصراع يتفجر عندما جمع العم سالم أبناء شقيقه أحمد الرفاعى لينقل إليهم وصية أبيهم
" لقد أوصانى أخى أحمد رحمه الله بأنه حين يموت تؤل أرض السيل إلى بكر " ص 25 قامت القيامة و اكفهر الجو كشف حامد نيته:
هذا الولد لن يحصل على هذه الأرض أسمعت يا عم " ص 26
تلتهب جذوة الحوار، يحسم العم الأمر :
" هذه و صية أبيك وهذه أرض بكر و قضى الأمر" ص 26
لم ينته الأمر بل حاصرته الكوابيس فى النوم واليقظة " كان حامد و يتبعه إخوتي بعد هذه الحادثة يتفننون فى اختلاق الأسباب التى تزعجنى وتغضبنى و تؤلمنى " 28
استغل حامد طفولته و سخره للعمل فى الحقل و مد يديه عليه و توالت صفعاته على وجهه، ثارت أخته زينب تشاجرت مع حامد فصفعه أمامها جذبت بكر من يديه وهى تقول " ليس لك مكان هنا فتعالى معى " ص 29
ذهب معها وسرعان ما عاد لدفء حجرة أبيه حيث ترفرف روحه عليه فيها .
اتفق أخوة يوسف على طرده من حجرة أبيه لتزويج شقيقه راضى ، نقوه إلى المضيفة خارج البيت وأعلنه حامد بقرارهم فى نبرة حاسمة:
"لقد اتفقنا على هذا كما اتقفنا انك ستبيت فى المندرة الخلفية الخاصة بالضيوف لأنك صرت شابا و لا يصح أن تعيش فى منزل واحد مع زوجة أخيك " ص 32
ترك بيت أبيه للمرة الثانية لمنزل جده لأمه و " رغم الصمت المطبق و الظلام الحالك كان خوفى أهدأ قليلا من حين كنت فى منزل أبى "ص 34 و كما يقول الشاعر أن ظلم ذوى القربى أشد مرارة من وقع الحسام المهند قال بكر: " اعرف أن أصعب الأشياء أن تكون مغتربا بين أهلك و خائفا و أنت فى مصدر أمنك " ص 30
بحثت عنه العائلة لتعيده للمندرة على وعد أنه خلال شهر سوف يعود لحجرة أبيه فيستسلم ويعود معهم لتستمر المواجهة من مسافة الصفر .
ذهب حامد للسباحة فى النهر فأصيب بالدوار وكاد يغرق فاسرع شقيقه، طريده لإنقاذه بعد أن اخراجه ألقى عليه الماء ناقلا مشاعره الساذجة " كدت أموت من خوفى عليك " ص 39
يملك الكاتب ناصية الحكاية وينقلنا من توتر لتصعيد، ينتظره حامد غاضبا مع جوقة أخوته التى تسير مغمضة خلف حامد الذى يواجهه " هل وصل بك الحقد أن تحاول أن تغرق ولدى" ص 40
يرد صالح ابن حامد " عمى بكر هو الذى أنقذنى و لم يحاول أن يغرقنى وأنتم تعرفون " ص 41
يرد حامد " أفسدت علينا أبينا من قبل و الآن تفسد علينا أبنائنا أنت تستحق القتل" ص 42
يصير الفتى بكر شابا قويا انتصر فى مسابقة التحطيب التى تقام فى مولد الشيخ البهنساوى "فثارت الفرحة عارمة بين أفراد عائلتى " ص 45
لم تطل فرحة العائلة بابنها، إلا ودعاه بحر ابن عمه ابراهيم "هناك معركة كبيرة بيننا وبين بيت الخشاب قرب خيمة الغازية رمانة" ص 45
تنتهى المعركة بقتيل من إخوته فيجرى عليه ليحمله "أن تحمل جثة أخيك فكأنك تحرق لبك بنار لا تنطفئ " ص 47
قدم لنا الكاتب صورة قلمية لما يدور فى مثل هذه الحالة حيث ترفض العائلة العزاء و تجتمع للاتفاق على من يأخذ بالثأر يجمع عمه حامد أشقاء القتيل ليحسموا أمرهم و إلا يأخذ أحد الأبناء الثأر من مختار الخشاب القاتل يعلن بكر قراره " رفعت صوتى للمرة الأولى أمامهم وأنا أقول لن يأخذ ثأر عبد الغنى غيرى" ص 48
يغيب حامد ويعود لقيادة العائلة يوجه بكر لقتل كبير عائلة القاتل بدلا من الفاعل " ستقتل صديق الخشاب نفسه "ص 50
يستغل حامد قضية الثأر ليتخلص من بكر ويجعله مطلوبا للقتل قصاصا وينتقم من صديق الذى اشترى من رمانة فدان أهداه حامد لها جوار مقام البهنساوى " فطالبه بها وقد أحس أنه خدع فرفض صديق صارت تلك المشاجرة التى قتل فيها عبد الغنى" ص 67
صارت اشاعة طلب الثأر من صديق الخشاب بدلا من مختار الخشاب طعما اخرج القاتل من مكمنه و أعطى الفرصة لبكر ليقطعه ببلطته بعد أن ثبتته طلقة صالح من الغدارة وذهبا فرحين إلى العائلة المنتظرة " صرخ حامد ( المفترض أنه يصرح صالح ) : عمى بكر قتل مختار الخشاب" 56
ينال بكر جزاء سنمار ويكيد له حامد ليبعده عن ابنه صالح ويحرمه ممن وهبها ابيها زوجته له " عمى ابراهيم إننى أريد أن اتزوج سعاد. فى هذه المرة كانت الدهشة من نصيب عمى ابراهيم بدا وكأنه يرانى أول مرة قبل أن يقول
لكن سعاد خطبها حامد منى هذا الصباح لولده صالح وأنا وافقت "
تغلق السبل أمام بكر رغم أوبة صالح إليه واعترافه أن أبيه هو من أجبره على خطبتها لكنه لم يخنه ينسج بكر مكيدة يشاركه فيها عمه إبراهيم ناقلا الصراع على أرض الوصية لاتجاه أخر حين يقبل عمه شرائها على أن يبقى الأمر سر بينهما " كانت المرة الأولى التى اشعر أننى اطعنك يا حامد فى الظهر كما فعلت مرارا" ص 88
يجمع أمواله و يقرر شراء مركبا ليخرج به " هارب من ماضى كان قاسيا ومظلما " ص 91 " إننى قررت أن أهرب من ذاكرتى ...
لعلنى .... استطيع . ص 92
همسات عن الرواية
اسعدتنى الرواية و عدم لجوء الكاتب إلى الاطناب فى أحداثها والتركيز فى القضية الرئيسية لها كما أنه استطاع أن يهندس تراتبيه الأحداث و قدم وصفا للأشخاص والمكان و برع فى استحضار صوت الأب المتوفى فى وجدان بكر ومع هذا لابد لنا من لفت الانتباه لما يمثل فرصة أن يتفادى تلك الهنات فى الروايات القادمة
لقد أسرف الكاتب فى البداية فى استخدام الفعل كان فى بداية فقرات الفصل الأول نخلة وخريف. فى الصفحة الثانية من الرواية المطبوعة ست فقرات بدأها جميعا بالفعل الماضى كان
ذكر الكاتب أشخاصا مثل التاجر السودانى الطاهر و ولده حجاب ، عمه كامل القصير البخيل جميع من سبق لم يسند لهم الكاتب دور أيا من الفصول التالية للرواية، أخوة حامد الذكور لم يكن لهم دور سوى الحضور الباهت(جوقة) خلفه أثناء صراعه مع بكر .
أفلتت من المراجعة لنص الرواية بعض الهنات النحوية الواضحة مثل عدم تفعيل لم فى حذف حرف العلة من الفعل التالى للحرف فى بعض الحالات.
الرواية صادرة عن الهيئة العامة للنشر الأقليمى للعام 2021 وهى عمل جيد و ننتظر من كاتبها الأديب وليد الهوارى المزيد من الإبداع
طارق الصاوى خلف
تعليقات
إرسال تعليق