هامش على رواية الذباب الأبيض للاديب (تركى الأسيوطى) بقلم طارق الصاوى خلف

      

                             هامش على رواية الذباب الأبيض

                               للروائى محمد توفيق (تركى الأسيوطى)

                                                     بقلم     طارق الصاوى خلف

تصدير 


لكل كاتب عالمه، يستمد منه الحكاية، يصيغها  فنا، يفيض عليها من خبراته، يمزجها بخيالاته، ينشرها، فإذا بنا أمام رواية متفردة. 

 هوامش على رواية الذباب الأبيض

رواية "الذباب الأبيض" هى الثانية التى اختار كاتبها إن يكون مكان أحداثها فى  الاتحاد السوفيتى السابق و هو نفس النطاق الذى جرت عليه أحداث روايته السالفة "عن ذلك الرجل الأريب "  و أزعم أن  بطلهما نفس الشخص الغامض المحب للمغامرة  ابن الشرق الأسمر فتى النيل الأسيوطى من قرية جحدم بالصعيد  الذى  أقام بالاتحاد السوفيتى  للحصول على شهادة دراسية و يخوض مغامرته  الثانية بعيدا عن  البر كما فى الرواية السابقة بل تمت أحداثها على  ظهر سفينة  صيد فى أعالى البحار،  لقد أكد ما وصلت إليه من استنتاج  ربط  المؤلف بينهما فى مقدمته:

 "كان من المفروض أن أبدأ بها ... فهما روايتان من خماسية عزمت على كتابتها" ص 7

(الذباب الأبيض ) عنوان مراوغ لم يستقر عليه الكاتب حسب ما جاء فى المقدمة إلا فى اللحظة الأخيرة وهو يعيد كتابتها بعد فقدها خط لها عنوانا (عش الأغربة) ثم  غير وجهته إلى  (نافيجاتر)  اسم سفينة الصيد التى جرت فوقها أغلب أحداث الرواية منذ إبحارها حتى عودتها مع نهاية الرواية لرصيف الميناء فى (مور مانسك) و أظنه كاد ينحاز  لعنوان  الفصل الأول من الرواية ( ابن الشرق الاسمر) و هو مفتتح التصعيد الدرامى للبطل الشاهر سيف فحولته فى منتجعات الليل بالرسترون منتظرا انبلاج الشمس للرحيل.

وفى عود على بدء استقر على  " الذباب الأبيض " عنوانا و اعتقد أنه يحمل دلالة أعمق مما ذكره فى فصل البرد  ص 78 ": نالت منى لدغات البرد . 

 ضحك كوستا وصاح : إيه يا ابن الشرق! ... ربما لا ترى هذا فى بلدك ... إننا ندعوه ( الذباب الأبيض)"

 يقوم الذباب بالتساقط على موائد الطعام لكن فى الرواية تساقطت الخبيرات على زبائن المطعم حتى أن إحداهن " تطمع فى قضاء ليلتها بين أحضان  ابن الشرق الأسمر و مضيت معها دون رغبة حقيقية" ص 22

 إن" الذباب الأبيض" المتساقط  فى فصول الرواية أصاب كوستا بالعجز عن الفعل  عندما رأى خيانة  زوجته  حين عاد فجأة من رحلة بحرية ليجدها  مع رئيسها فى العمل فى غرفة نومه  و يخبر الرواى فى حوارهما أثناء الاستراحة " لم افكر فى الانتصار لشرفى فاركب موجة عنف بأن أنال من المرأة الخائنة أو الرجل الذى سطى على عرضى" ص 110 

يتأكد هذا البعد لتفسير تسمية الرواية بالذباب الأبيض فى اعترافات ( لودميلا  جريجورفينا) سيدة الرستون (روداميلا) التى غيرت اسمها حسب مراحل عمرها وهزتها ابتسامة ابن الشرق الأسمر فالتصقت به وذهبت  لوداعه فى الميناء لقد مرت حياتها بتحولات وهى ما نسميه فى السرد الشخصية النامية  فمن طفلة ذكية "بمدرسة المتفوقين بالمدينة "ص 22 

تشيد بجهدها وتميزها وأخلاقها  مديرية المدرسة الداخلية و بكونها " تلميذة مثالية " ص23 

ألحقوها بعد تخرجها  بوظيفة عارضة أزياء طلب منها المصمم الشهير " اخلعى ... اخلعى عنك كل ملابسك وقفى أمامى عارية تماما" ص140

يقتل التعود الانفعال و (الذباب الأبيض) يأخذ ما يريد من متعة دون أن يردعه تأفف أو اشمئزاز الآخرين  تقول( لودميلا جريجورفنا) متباهية بفعلتها   " وادخلت القط النفور المتمرد قفصى وشعرت أننى بين احضان من اخترته لأعطيه بلا حساب" ص 149 

  اختار الأديب تركى الأسيوطى أسلوب  كتابة السيرة الذاتية كوسيلة لسرد الأحداث فى الرواية   يسرد  كراوى عليم بضمير المتكلم فى فصول من خلال خط زمنى متصاعد نادرا ما يلتفت فيه للوراء لاستدعاء موقف من الذاكرة فقد برر امتناعه عن قتل ( الكسندرا) رغم أنه  " من الغريب أنه قد سبق لى ارتكاب ما استنكره الآن واستقبحه؛" ص 136 . 

استمر الصراع الذى لم يحسم مع (الكسندر) ص 125  و يعود إلى نفس الحدث كأن الشئ بالشئ يذكر لحظة اكتشافه قتل الكسندرا ظن أنه تم بتخطيط  شيطانى  " واجهت حالة موت عنيفة ، انتزعت روح عمران ابو سلول قسرا تفتت لها الصخر ولم تعترينى معاناة نفسية كهذه" يشعر البطل بأنه متهم و أن هناك من يسعى ليأخذ بالثأر منه بادر ليقول لجينا :

"لك أن تعلم أنى لم أقتل اليكسندر" ص 220 

ابلغه جينا أن  الحادث كان قضاء وقدر لكن الهاجس والعداوة المبيتة بينهما أعطت له أبعادا أخرى " أراد المسكين أن يقفز من افريز الثلاجة عن طريق السلم... فى نفس اللحظة التى أوصلوا التيار الكهربائى فاندفع به إلى أعلى وكان ما رأيته هناك "ص 221 

-   لقد اتخذت أغلب فصول الرواية من أسماء الأبطال عنوانا لها وهو اسلوب سردى سعى عبره الكاتب لأن يقدم صورة مقربة ومكبرة للشخصية من خلال خلفيتها الاجتماعية و العرقية و سرد قصصا فرعية تثرى أحداث الرواية مثل سيرة (الأرمنى أرتين) الذى أكمل حكايته بـ ( خاله أرتين) فالطفل أرتين يستغل الولد اليهودى المعاق ويستبدل الزجاج الملون بقطع الماس حتى مات جد الطفل فجأة و ربما حسرة  وهجرت اسرة اليهودى المنطقة  مخلفة الكثير من الثروة بيده "  حافظت على كنزى فى سرية تامة  دون أن يعرف أحدا شيئا عنها " ص 82 

هذا المال الذى يظهره الأبن للأب بعد سنوات ليكون شريكا للخال ارتين الذى يقرر فتح مصنع للجلود فى لبنان و يذهب الأب للعمل معه لكنه يشاركه برأس المال  ويسعد الأب ويبلغ زوجته بفخر وتباهى "سأسافر إلى بيروت ... وسأعمل بمصنع الجلود بكل ما أوتيت من قوة دون وصاية منك و من أخيك " ص 87 

قال  أرتين عن  سبب وجوده على السفينة:

 " وافتنى اخبار  مفادها ان أعين رجال المباحث تتعقبنى، إثر وشاية  من يهودى لمزاولتى نشاطا تجاريا غير مشروع " ص 89 

و لأنه قضى فترة تجنيده بالبحرية فقد وجد فى السفينة المخبأ المناسب له حتى تسكن العاصفة  .

من الشخصيات الرئيسية فى الرواية ( جينا) أو( باراتوف جينادى مكسيموف) و أزعم أن هذا الفصل هو رواية داخل الرواية  فعدد صفحات الفصل هو ستون صفحة من ص 140 إلى ص 200 يتناول السيرة الذاتية لجينا من طفولة لا يجد فى ذاكرته " شيئا ذا بهجة لمشوار طفولة باهته عشتها بشبه جزيزة ساخالين " ص 140

 يستعرض فى هذا المكان القريب من موسكو الحرب العالمية الثانية وحالة الناس خلالها " حقا عضنا الجوع و العرى والمرض بأنياب حادة ... لكنها ضريبة النصر "ص 146 

يبنى الأديب من خلال علاقات جينا مع محيطه حكايات صغيرة لأشخاص مثل (العم ديمترى) الذى يعلمه الكثير لكنه يكتشف علاقته بالخالة( ظويا ماخلوف ) وخلوته بها فى مخبأ بعيدا عن العيون ظن أنه مع ريتا الفتاة التى يهديها السمك الذى يصيده فتعتدى على براءته:

 " أخذت رأسى بين كفيها وطبعت على وجنتى قبلتين ثم تناولت شفتى !" ص 153 

جينا الطيب الذى يرى الكثير لكنه  " ما رأى و لا سمع ... أو عرف شيئا عن العم ديمترى ... سوى أنه جار طيب ورئيسه فى العمل " ص 165 

يتردد جينا فى الالتحاق بالأكاديمية  العسكرية و يظل فى القرية تلبية لرغبة أمه  العاملة فى  أحد المصانع وجدته  التى تحتاج الرعاية  والأهم أنه لا يطيق  الابتعاد عن ريتا مصدر بهجته  وهما ينغمسان فى حالة الحب ف " الأنثى تتجاوز كل الحواجز عندما ترغب فى العطاء "ص 182 

رغم أنها زوجة وأم لطفلة لكن الحرب أخذته حتى  "قالت أم ريتا أن زوجها عاد " ص 183 و اصطحبها رجلها لمدينة أخرى.

دخل جينا الأكاديمية البحرية  العسكرية وأمضى بها أعوام، بعد تخرجه  قرر خطبة بزارا لكن  أم الفتاة اعترضت لسبب وجيه " إن اليهودية لا تتزوج إلا من سام تجرى بعروقه الدماء السامية " ص 190

لا يقف جينا عند  اعتراضاها  يخطط مع زملاؤه  ليقيموا حفل الزفاف فى الأكاديمية  تذهب معهم (زارا) و تلبس الفستان الأبيض وتدخل القاعة الصاخبة بالموسيقا  لكن تأتى العقدة لتفسد الفرح بصراخ جندى فيهم :

 " اسرعوا بإقصاء الفتاة من المبنى بأى كيفية ترونها ... طالب يهودى أبلغ العقيد بأمر الحفل والزواج " 193

فُصل جينا من الاكاديمية البحرية  فلم يحزن سوى لـ " فقدان  زارا ... فقد اختفت الفتاة وأسرتها من القرية ص  194 

تظهر مجددا (ريتا) فى حياته فيهرب منها لحياة" جادة فوق سفن صيد الأسماك " ص 197 

ونعود للرواية الأم مع آخر سطر يبوح به (جينا) عن نفسه "ومرت عدت سنوات .. لأفاجأ ذات يوم أن (الكسندر) على ظهر السفينة (نافجتاير)  ! غراسى كما قالت ريتا ...... و .... ص 200

وما سكت عنه الراوى  أخطر فقد اتبعه بفصل عنوانه  سؤال معلق جوابه " من قتل الكسندر " ص 201 

تعامل الروائي توفيق الأسيوطى بحرفية عالية فى استخدام السرد  و تقنياته  من الاضمار حتى أنه لم يكشف عن اسم البطل الذى هو عباس إلا فى حوار قصير مع أرتين " عباس ... لماذا لم تذهب إلى الحمام؟" ص133 .

كما لم يكشف لنا عن العلاقة بين ( الكسندر ) و (ريتا ) التى دفعت بالبطل ليشك فى جينا أنه خطط ليقتل الكسندر بيده . 

 اختار الكاتب بداية خبرية ذات نغمة خطابية لفصل (خطورة) " لامجال للتواكل فى عالم اليوم مع أزمة الغذاء وزيادة السكان فوق كرتنا الأرضية الصغيرة بتعداد فاق المليارات  ص90 

وأظن أن البداية الموفقة للفصل هى الفقرة الثانية ليستهلها بايقونة الحكى الفعل الماضى "دارت بكرات الونش الأرضى لتطوى حبال الصلب وتنتشل الكيس من أعماق البحر؟"  ص 90

   و أخيرا 

طبقا لموسوعة ويكبيديا  فإن (الذباب الأبيض ) أو  أمقات من رتبة الحشرات الصغيرة و يتغذى الذباب الأبيض على الجانب السفلى من أوراق النبات  وهو حشرة مؤذية للنبات .

إن الربط بين التشوهات و الندوب فى الشخصيات النسائية التى تأتى هامشية فى أحداث الرواية لتعطى متعة حسية وبصرية للشخصيات الذكورية يأخذنا لما يفعله الذباب الأبيض بالنبات.

الذباب الأبيض للأديب محمد توفيق ( تركى الأسيوطى ) صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة النشر الإقليمي للعام 2021 وهى رواية كبيرة الحجم إذ بلغ عدد صفحاتها 229 صفحة من القطع المتوسط  و امتازت بأسلوبها السلس و عرضها الشيق لموضوع أظنه غير مطروق بكثرة فى الرواية العربية عن صيد الأسماك فى أعالى البحار.

                                                                                   طارق الصاوى خلف 

 


    


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة فى ديوان لا تنشد المحتاج للشيخ حمدان الترابين لطارق الصاوى خلف

مطب سيناوى للشاعر رأفت يوسف بقلم طارق الصاوى خلف

مطلع العام الثامن والخمسون مع وقفات فى حياتى طارق الصاوى خلف ‏