جماليات السرد فى رواية ذلك الرجل الأريب للروائى/ محمد توفيق عبد الحافظ بقلم طارق الصاوى خلف
للروائى/ محمد توفيق عبد الحافظ
جماليات السرد
تصدير
حين ُتطالع عملا أدبيا تحلق فى
الأفاق من حولك روح الفنان تُهديك شذى ورودها، تُزجيك رحيقها عسلا مصفى من نبع
الخيال .
لهذا شعرت بخفة روح الروائى محمد توفيق، حكمة
المهندس الذى عمل فى تشييد السد العالى ورافق الخبراء الروس وجال فى جمهوريات
الاتحاد السوفيتى السابقة وقدم لنا عبر تقنياته السردية تجربة إنسانية مدهشة
ممزوجة بأطياف من أجنحة ملونة من السرد الممزوج بالخبرة النوعية المراوغة و القدرة
على جذب انتباهك من خلال الاحداث
المتلاحقة .
المقدمة رؤية الكاتب لروايته
يأتى تصدير الروائى كاشفا للحال معبرا خير
تعبير عن الخط الدرامى لتصاعد الأحداث مفسرا اختياره لشخصياته
و المنطقة الجغرافية التى وقعت بها ويرجع ذلك لكثرة ترحاله واسفاره كما أن
الصدفة القصدية من الروائى هى التى فتحت باب المغامرة للبطل ليلج فيه مع قدر من
" اللجاجة والتطفل اللذان هما من أم دوافع استمراء المغامرة "
خط سير الرواية
كلمتا السر فى الرواية هما " اللجاجة
والتطفل " ومن ثم نرى الراوى فى البداية قلقا ينتقل من مكان لآخر على غير هدى
ينصت لموسيقا بعيدة فيقص أثرها و تضمه حالة مزيفة من السكينة ونعرف أنه مهندس مغترب يسعى للحصول على شهادة
الدكتوراه يسأل نفسه " ماذا لو أجيد
العزف على أحدى آلات النغم " يربط حاضره بماضيه و يتذكر الربابة و
تجذبه رائحة تعرفها أنفه يسير خلفها لندخل معه فى دوامة الأحداث حيث يضع رأسه بين
فكى خارجين عن القانون يطاردهما كأنهما صيد حتى يقع فريسة عنيدة بين أيديهما تأبى
الخضوع لوحش شرس ... يتجادل معهما فى سعر كيلو الحشيش بعد فاصل من العنف الجسدى لم
يسفر عن إصابات . وينفض اللقاء أو الفصل الأول دون أن يشترى منهما اللفافة
ويظهر الشخص الأريب بطل الرواية قدرته على
تفادى لحظات التوتر من خلال التمويه على المطاردين له بتوجهه لمكان غير سكنه
الأصلى لكنه يكتشف فى رحلة عودته من الميناء الروسى إلى قريته بصعيد مصر أن فشل فى
الإفلات منهما فإذا بهما أمامه يقدمان له علبة شكولاتة هدية ويعقدان معه صفقة
جنتلمان بأن يحضر لهما هدية من مصر.
تلعب المصادفة وحدها دورها فى تحقيق البطل
للوعد ويجد الصنف فى متناول يديه حين يذهب مع صاحبه الصحفى فكرى إلى مقهى شعبى
يدخن رواده الحشيش علانية ويستفسر ببراءة عن سعره فيمنحه أحد الجالسين هدية مجانية
ثلاث قروش ويتعلم فى الجلسة كيف يصنع
صاروخا ينعش خلايا الروح . وعند وصوله لمطار استرخان المدينة الروسية وفى سيارة الأجرة التى ركبها و
التى سار خلفها صديقيه نكتشف أنهما من أكبر الخارجين على القانون وتنتاب السائق
حالة من الرعب حين يوقفان السيارة بينما يسير معهما بهدوء وثقة إلى وكرهما ليثبت
لهما جدارته بصدقاتهما حين يهدى إليهما السجائر الملغومة بالحشيش .
وفى مشهد سينمائى مثير حين يسير متخبطا فى
عجزه عن إحضار لحم حلال لزوجته فيجدهما أمامه يصحبانه لحانة بها الخمر والنساء
والأضواء الباهرة وحين يحاولان التخفيف عنه يبلغهما بأنه بحاجة إلى خمس عشرة خروفا
وإذا به يقع فى مأزق عندما ينفذان له طلبه ونكتشف لحظة وصول الخراف أن اسم الراوى
عباس صـ81 وأنه متزوج من طبيبة شيشانية وأن حماه يعرف الجزارة وأخرجه من الورطة بل
كسب نقودا من بيع اللحم فى السوق السوداء ويبحث عن الشقيين ليعطيهما حقهما ويذهب
للحانة فتنكر النساء معرفتهن بهما حتى يرسلان له لحظة يأسه من العثور عليهما من
يدعوه إليهما ويبلغانه أنهما من يحددان
موعد مقابلته .
ومرة ثانية يدخل فى مغامرة فرعية من أجل
إحضار بطانية من وبر الجمل ( تلبية لطلب صديق) نطالع جوانب أخرى من شخصية الراوى
وصديقيه و يزج به تطفله فى لعبة الطاولة فيحرك قطعة تحبس أنفاس الزعيم المحلى
للمافيا فى باكو عاصمة اذربيجان فيعلن الرجل تحديه له فى اللعب فيقبل ويقامر فيكسب
الرهان مرة واثنتين لمن الرجل الأريب يخرج من المأزق فيعيد المال لزعيم المافيا
كعربون صداقة بينهما لتتحقق بينهما
المصالحة والمسامحة ويقوده الزعيم لمنزل أمين ومن خلال الحوار بين الثلاثة نعرف أن
صديقى الراوى هما قادة المافيا على مستوى الدول السوفياتية وأن الزعيم الاذرى ما هو إلا بيدق فى رقعة
شطرنج كبيرة و كذلك أمين له دور فى مساعدة الزعيم المحلى للمافيا بينما يقرر أن
يحسم أمره ويخرج من علاقة جلبت له المهابة فى باكو وأوصلت البطانية إلى استرخان فى
" رحلة تمت بعشوائية بحته " صـ
135 .
يأتى مشهد الختام فى " لقاء الند " ابن جحدم (قرية بالصعيد)
قاتل قاطع الطريق سلبه ماله يوم وفاة و الدته يواجه رأسا المافيا السوفيتية ،
يقاوم الابتزاز النفسى والضعف الإنساني حين تراقصه فتاه شقراء مشقوق فستانها من
الأمام والخلف وتباغته بقبلة متوجهه على خده فيكون رده على حرارتها مزيد من برودة
الثلج لتنتهى المواجهة برفض عرض من قبل
الراوى بالانضمام إلى المافيا لتنتهى المواجهة العاصفة بدون خسائر يتفهم الطرفان
الموقف ويدرك الشقيان أن درب العلم لا يتلاقى مع طريق الجريمة المنظمة وأن
تلاقيهما هو محض صدفة يجب أن تصل للنهاية .
صورة المرأة فى الرواية
قدم الكاتب الصورة التقليدية للمرأة
المستكينة المسالمة التى تقبل أن يستغلها الاخرين
دون ان يكون لها رد فعل . كما لم يكن للمرأة دور فاعل فى الرواية وتحريك
الخط الدرامى المتصاعد بل هى فى أغلب الأحيان أتت كديكور جيد الصنع موحى بالموقف
يكثف اللحظة ويعطى للحدث عمقا لدى القارئ نجد ذلك فى شخصية :-
الأم : تلك الأرملة التى تذوى وحيدة لتربى أبنها حتى إذا بلغ معها
السعى رحل عنها وتركها تحت سطوة زوجة عمه التى تتعالى على بقية نساء العائلة
بسفرها للبندر وتترفع على مشاركة أمه فى تحمل مشاق العمل اليومى للبيت الكبير بإنجابها
للبنين والبنات وبزوجات الأبناء الذين تكتفى بتوجيههن لخدمتها بينما أم الراوى
تستمر فى خدمة نفسها حتى لقيت ربها فى غيبه له عنها .
الزوجة : طبيبة تخضع لأول طارق على باب قلبها
فتترك لأجله العمل وتتفرغ لخدمته ووليدها وتقوم بمسح الدم النازف من جسد زوجها وتغير
ملابسه حين يأمرها " فتنصاع دون لجاجة" صـ30 ولم تجرؤ على سؤاله: عن من
فعل به ذلك ؟. وعندما تطلب منه اللحم يلخص الراوى تصوره لها فى قوله "إن
المرأة لا تمل من الكلام لذلك فإن لسانها لا يصدأ " صـ78
موخينا الأوكرانية وابنتها بائعة الهوى :
تعترض سبيل الراوى تطلب منه وهو المسافر بين الشرق والغرب طلبا محرجا " إذا
أمكنك ابتياع عضو ذكروى لأبنتي " صـ 82 لحماية إبنتها من شبقها فى الإتصال بآخرين
قد يصيبونها بأمراض قاتلة .
تنحصر بقية الشخصيات النسائية اللائي وردن
بالرواية فى الخدمة الشاقة وجلب المتعة والقاسم المشترك بينهن هو الخوف من الأشقياء
أصدقاء الراوى .
الرواية والنقد الاجتماعى
الروائى الأريب "محمد توفيق عبد الحافظ " يمتاز بالفطنة وقوة
الملاحظة والذكاء الفنى بحيث لم يصدر أحكاما قيمية مطلقة على الظواهر الاجتماعية
من حوله بل ترك أشخاص روايته يتصدون بالنقد فى موقف أدبى مناسب وليس مفتعلا كما
يقع فيها بعض الروائيين حتى الكبار منهم فنجد:
-
أستاذه المشرف على الرسالة ينتقد الاتحاد
السوفيتى بقسوة ويلقى له بالنبوءة أن النظام الشيوعى سيسقط صـ 8
-
يحاكم الراوى نفسه ومجتمعه و البلد الذى سافر
ليدرس فيه وكذلك اعتبار الشهادة التعليمية فقط كسبيل للترقى بين طبقات
المجتمع وكمصدر لجلب التقدير والاحترام صـ
140
-
نقد الراوى للقشرة الحداثية التى صبغ بها
الروس مدينة باكو الأثرية صـ 109
-
على مدار فصلين كاملين ( طريق القنطرة – زخرف الأرض) انتقد فيهما الكاتب
السلوكيات التى لا تعجبه فى المجتمع المصرى
-
جلسات الروحانيات التى يتصدرها الدخان الأزرق
المعبق بالأنفاس الحامية التى ينساق خلف أوهامها بعض المتصوفين والمثقفين مثل
صديقه فكرى صـ59
براعة الوصف
أجاد الراوى سبك جمله مضفرا فصوله بزخارف
وصفيه شديدة الروعة إنه يأخذ بيديك وأنت مغمض العينين لترى الحدث وتكون شريكا فيا
سيدور فى المكان من حوار فتجده وصف لك المدينة من أكثر من زاوية كما أنه يقدم مشهد
تلفزيونى لأوكار صديقيه يصفه من الخارج ومن الداخل يقارن بالصور القلمية بين منزله
ومنزل أسرة زوجته ودائما ما يسبق فى الرواية أى حوار وصفا مسهبا للمكان الذى سيجرى
فيه الحدث .
خاتمة
" ذلك الرجل الأريب " للروائى محمد
توفيق عبد الحافظ جعلنى ألوم نفسى كثيرا أن يكون بيننا هذا الرجل القيمة فى
الإبداع ونحن على المستوى الأدبي نجهل تاريخه وأعماله لقد ادهشتنى الرواية لدرجة
أنها سيطرت على وعيى وألزمتني أن أسهر الليل رغم هموم ومشاغل النهار التالى حتى
انتهى من مطالعتها وعدت بعد الفراغ من مقررات الدوام للراوية أسبح فى نهر احداثها
أُلملم جمالياتها ولم أقدر على الخروج من أسرها إلا بعد أن افرغت شحنة انفعالي بها
فى تعليق مقتضب عليها .
لقد سبقت هذه الرواية فى رصيد أديبنا المنشور
ستة أعمال أدبيه مابين الرواية والمجموعة القصصية
و نجد أنفسنا إزاء كاتب كبير يمسك
بناصية قلمه فيمتعنا و يفرض علينا أن نضعه فى بؤرة الرصد الأدبي لأعماله السابقة
واللاحقة بإذن الله .
تعليقات
إرسال تعليق